الأخبار المصرية والعربية والعالمية واخبار الرياضة والفن والفنانين والاقتصاد من موقع الاخبار طريق الاخبار

"إذا كان وعينا يحتوي على خبراتنا الشخصية الماضية كلها، فإن الذاكرة ما هي إلا مجرد مصفاة كثيرة الثقوب"، هنري برجسون

أخبار الأدب والثقافةإصدارات وكتب أدبية › « نور لؤلؤة الإسكندرية ».. رؤية جديدة لزخم واقعي

صورة الخبر: « نور لؤلؤة الإسكندرية ».. رؤية جديدة لزخم واقعي
« نور لؤلؤة الإسكندرية ».. رؤية جديدة لزخم واقعي

في تراث الواقعية أبدع كتاب هذا التيار عددا من الأعمال الروائية الخالدة أصلت لظهور جوانب أخرى وأبعادا جديدة للواقعية، ومهدت لظهور نزعة طالت الواقعية بمختلف مراحلها وأشكالها فظهرت الواقعية النقدية والإشتراكية والواقعية الجديدة غير أن هناك تيارا ظهر من خلال التجريب في مجال النقد أطلق عليها الواقعية اللامرئية.

أو الواقعية النسبية وهو تيار عمل على التجريب فيه، والبحث في جوانبه المختلفة الكثير من كتّاب هذا الشأن الروائي الخاص. ولعل البحث في هذا الرؤية الجديدة للواقعية من خلال النص الروائي والتعرف على دقائقه، لا يظهر إلا من خلال استقراء النصوص الروائية والتعرف على مكوناتها الخاصة.

"فعندما اقتحم واقعيو العصر الثاني الحد الفاصل بين الواقع المرئي والواقع اللامرئي، لم يجدوا غير الوهم الواقعي، واستمر الجدل حول حقيقة الرؤية الفردية للواقع. وقد تساءلت الكاتبة الألمانية أنا سيجرز عن حقيقة هذه الرؤية في رسالتين أرسلتهما إلى جورج لوكاش عامي 19398،1938، تساءلت سيغرز في الرسالة الأولى عن المقصود بالواقعية، أهي "واقعية اليوم"، واقعية النظريات والمفاهيم، أم هي "الواقعية المطلقة" أي الاتجاه إلى أكثر ما يمكن من الصدق الواقعي المتاح بلوغه في زمن معين".

أما الرسالة الثانية فقد حملت من سيغرز انتقادا خاصا حول الواقعية وهي: إن ثمة شيئا يبدأ الآن ولا يزال حتى هذه اللحظة غير ناجز، وهو صياغة المعايشة الأساسية الجديدة، في عصرنا ""الرسالتان في كتاب جورج لوكاش دراسات في الواقعية، ترجمة د. نايف بلوز، ص 169، 190" "1". ولعل ما قصدته أنا سيغرز في رسالتيها هو البحث عن هذا الوهم الكبير للواقع، هذا الوهم المنجز والمختبئ وراء معالم الحقيقة الظاهرة ملامحها، وأشياء أخرى تتحدث عنها ولكنها مطمورة في زوايا التاريخ. ولعل علاقة الإنسان بالأشياء في الواقع المرئي والواقع اللامرئي هو العمق أو درجة الإدراك التي يحاول الكاتب أن يصل إليه لينير الطريق أمام منجزه السردي، ويجعله على مستوى التلقي واضحا وسائغا، وكما حددت الروائية الفرنسية ناتالي ساروت لنفسها مفهوما خاصا للواقعية حين قالت: "ليست الواقعية بلا ضفاف، وليس النص بلا حدود، وإنما الواقعية محاولة اتصال بين بطل وعالمه، وكاتب وقارئه، وتحديد مواقع جديدة لهذا الاتصال". وهو ما فعله الروائي حسني محمد بدوي حين صاغ روايته "نور لؤلؤة الإسكندرية" التي صدرت أخيرا عن مؤسسة حورس الدولية للنشر والتوزيع بالإسكندرية، والتي حاول أن يضع فيها رؤية جديدة لزخم واقعي أخذ من الواقع مكوناته المتراكمة ومزج مكونات هذا الواقع برؤية المتخيل الباحث عن حقيقة ما حدث، من خلال راو عليم يبحث وينقب ويشاهد ويحلل، ويحاول أن يضع الأمور في نصابها الصحيح، تحكمه طبيعة خاصة في البحث عن المجهول واقتحامه بشتى الطرق والوسائل.

* العتبات الأولى للنص

يبدأ الاستهلال على مستوى الرواية بداية من الغلاف بثلاث عتبات دالة، كل منها يتوجه إلى جانب من جوانب التأويل الكاشفة للتيمة الأساسية للنص، حيث تتبدى وقائع الزمان والمكان وتشظى كل منهما في جوانبه المختلفة وانبعاث خطوط التجربة التخييلية اللامرئية من خلال البعد الرئيسي للمكان المتمثل في واقع سكندري يأخذ من التاريخ أحجارا بالية قديمة ومخلفات لمعالم كانت يوما ما لها عالمها الخاص، وفي نفس الوقت يأخذ من الواقع المعيش الآني في منطقة محددة هي منطقة لسان السلسلة المجاورة لشاطئ الشاطبي والموجود بجوارها مكان مكتبة الإسكندرية القديمة معالم الحياة الحديثة، هذه العتبات التي بدأ بها الكاتب النص هي على الترتيب: العنوان الذي أخذه النص وهو "نور لؤلؤة الإسكندرية" ولعل هذه التسمية في حد ذاتها تحمل داخلها شفرة النص والمفاتيح الأساسية لتلقيه، وهي تمثل إيحاءا خاصا متواجدا داخل هذه المفردات الثلاث، وهو ما يعطي المتلقي إحساسا بالعثور على آليات التلقي لأول وهلة في مفتتح رؤية الكتاب، وهو بهذه العتبة الأولى يحدد ملامح المكان برؤية واضحة تماما، ويحدد أيضا بعض ملامح التلقي، كما يؤكد الإهداء وهو العتبة الثانية المباشرة للنص ما حدده العنوان الظاهر علي غلاف الرواية، حيث جاء الإهداء على هذا النحو "إلى مكتبة قديمة أحرقت، وحديثة أنشئت كانت بينهما أرض خراب في مدينة رماد الأحباب"، ثمة توجهات وإضاءات تتلمس المعنى الأدبي داخل هذا الإهداء الذي عبّر عنه الكاتب، وحدد من خلاله رؤية سوف تتحدد خطوطها في نسيج النص بعد ذلك، كذلك كانت البداية الأولى، والتي نعتبرها العتبة الثالثة للنص والتي أعطاها الكاتب عنوان "أقصوصيدة" وهو تعبير يحمل في طياته معنى الأقصوصة والقصيدة في آن واحد طرح فيه الكاتب، وجسد من خلاله مقدمة شاعرية الملامح وضح فيها مناخ تلاحم الذات مع واقع المكان، ويؤكد الكاتب في هذه المقدمة أيضا ما دلل عليه في العنوان والإهداء من رؤية خاصة يتلاحم فيها الواقع المرئي مع الواقع اللامرئي، والمكان المحدد الملامح والمتمثل كما ذكرنا في الكورنيش، ولسان السلسلة المتدلي داخل بحر الشاطبي، وما يحيط بالمكان من ظواهر تتقارب وتتناقض، وتشكل بعدا واقعيا له زخمه الخاص، فعلى البعد يبدو كازينو "الأوبرج بلو" بصخبه وسهراته المعروفة، وعلى الطرف الآخر يقبع عالم المهمشين بصخبهم الخاص، وملامح معيشتهم في هذا المكان، من هذا المناخ يطل السارد بهويته الخاصة ويتبدل الزمان ويندثر الكازينو وتتغير الأحوال، وتظهر الأرض المحترقة منذ ألفي عام ونيف ويبرز المكان الذي طرأت عليه عوامل التغير عبر هذه السنين الطويلة حتى استقر على شكل منطقة عسكرية مقامة على ربوة ضخمة عالية، كانت هذه البدايات التي أطلقنا عليها عتبات النص والتي سوف يكون لها دور خاص في توهج الخطوط الأساسية التي صاحبت آليات النص والتي مهدت بعد ذلك إلى أن يأخذ السارد موقعه الخاص من النص ليحكي ويسرد وقائع حياته الخاصة والعامة، ويحدد من هذا المكان أو المكان المجاور له طريقة حياة وأسلوب معيشة تطول شخصيات النص في مجهولها المعلوم، وفي معلومها المجهول.

* السارد وموقعه من النص
يبرز موقع السارد في واقع السرد منذ الوهلة الأولى لبوابة النص وبداياته، إنه أشبه بسرد الذات، أو رواية الأطروحة، أو رواية السيرة التي تعتبر كنوع من اختراق الأبواب الموصدة للواقع. ويبدو في مطالع النص الأولي، وبعد العتبات المؤهلة للولوج داخله ثمة اختزال كبير لحياة الراوي السارد لواقع عالم شبه مغلق، يحتاج إلى إضاءة من نوع خاص لإضاءته وتحديد نوعية المسار الذي يجب أن يتوجه إليه، حيث يختزل الكاتب في الجزء الأول من النص حياة الراوي منذ طفولته وحتى بداية طرح الأسئلة المطلقة التي يبحث بها عن الحقيقة: "كنت طفلا واعيا متنبها"، "أصبحت صبيا تلميذا ناجحا" "ص13"، "اشتد عودي قليلا في صباي""ص14"، "اتسع رويدا عالمي، عالم صباي وعرفت شاطئ البحر"، "طالت ساقاي وذراعاي وقوي بدني""ص15"، "وفي يوم مررت بحافة الأرض الواسعة الخربة، رمقت في نورها أحجارا متراكمة ومبعثرة" "ص16". وتتوالى الأسئلة في آلية متواترة باحثة عن كنه الحقيقة في مخيلة الذات، حول المكان وهويته الأساسية وما دار فيه من جدل منذ الزمن القديم وحتي الآن، وعن الزمن وتشظيه والبحث داخله عن لؤلؤة المعرفة، ونور الكلمة، والبحر والعلاقة الكامنة في ما يحتويه من أسرار وألغاز في هذه البيئة البحرية العجيبة، وهذه الأرض الواسعة التي كانت في يوم من الأيام مكتبة كبيرة عامرة بالنور والضياء والثقافة والفنون والعلوم وكل مظاهرالحضارة "معقول الأرض دي هناك كانت فيها أكبر وأعظم مكتبة في الدنيا" "ص15" لحظة من الدهشة، وصرخة أطلقها الراوي حين وقف يشاهده مرات كثيرة.

في هذا المكان الذي حدده السارد كمكان واقعي بدأ البحث عن لؤلؤة الإسكندرية، أمام أحجار المكتبة المتناثرة في كل مكان والناتجة عن الحريق الهائل الذي طوح بهذا الصرح الأسطوري الكبير، ومن خلال هذا الواقع المحدد يبحث السارد عن واقع آخر مختبئ غير مرئي في هذا المكان السحيق من الشاطئ الأسطوري، هو يتوجه إلى البحر ليبحث بأدواته البسيطة عن واقع هو أولا وأخيرا موجود داخله، ولكنه له علامات خاصة في هذا المكان، هو يبحث عن تلك العلامات، كما أنه يحاول أن يجد إجابات للعديد من الأسئلة التي واجهته وتزاحمت في وعيه وإدراكه منذ طفولته المبكرة :"أنا أقرب إلى لسان السلسلة، السلم العالي الملتوي، علي حديده رقائق صدئة مقشرة تطيرّها هبّات هواء، ورذاذ ملح، أنزل على درجاته الثلاثين الخشبية المشققة، آخرها مدفون في رمال، موقع براح، منخفض، موحش، خاو، في كل الفصول مهجور. رمال خشنة. حصى مظلط. قواقع جافة فارغة. حشائش ميتة. روائح يود. عفن، زفر، رغم أن المكان ملقف هواء متطاير يصده حائط اسمنتي كالح شديد العلو، مقعر مبقور منخور. وعلى الرمل تحت الثقوب. جيوب سراطين كابوريا مصفرة كالعقارب. صراصير بحرية صغيرة. ديدان. نفايات حطام سفن يطوحها الموج وينزحها فتتشرب مواقع من الرمل بطين الشحم والزيت والنفط. أنتقي مواضع خطواتي بأمان " "ص16/17".

في هذا الواقع المحدد الملامح، الشديد التوهج، يبرز واقع آخر في المخيلة يبحث عنه السارد من خلال هذه المفردات التي وضعها أمامه من مفردات شاطئ البحر، إنه يعكس بمفردات لغوية مستقاة من واقعه الخاص، والذي يمثل البحر عنصرا أساسيا فيها لقرب سكنه منه، إنها مشكلات استعمال الواقع المزدوجة في فرضيات الجدل المترادف الذي يعكس قضايا الواقع بكل ما فيها من مفارقات ومتناقضات: الوهم والحقيقة، البحث والانعكاس، الواقع والمتاهة، الوعي واللاوعي، مشكلات متجددة دائمة يحكمها الواقع المرئي ويصوغ منها ملامح الواقع اللامرئي في نهاية الأمر.

* الواقع المرئي

يبدأ السارد الراوي في معايشة واقعه الخاص من خلال هذه الجبلة الخاصة بطبيعته وهي الفضول وشهوة حب الاستطلاع، والبحث عن الحقيقة بأي طريقة وبأي وسيلة كانت، لذا نراه حين يعثر علي بغيته تحت رمال الشاطئ في منطقة السلسلة في خبيئة من الخبيئات المتناثرة على رمال الشاطئ، يسرع إلى منزله في الشارع المؤدي إلى محطة سوتر خلف المكان الذي كانت مقامة عليه مكتبة الإسكندرية القديمة والممتد في نهايته إلى حدائق الشلالات، حتى ينفرد بهذا الاكتشاف الجديد والذي يحمل معه أمل أن يجد لؤلؤة النور داخله، الإقامة كانت في منزل كبير به حديقة واسعة مع جده لأبيه وهو الباحث الذي يحمل قدرا كبيرا من الثقافة العالية، معهم مدبرة المنزل وتسمى "أم برومي"، تزورهم كل يوم، وهي المسؤولة عن كل كبيرة وصغيرة في هذا المنزل. هذا الواقع المرئي للراوي يحمل معه في ذلك الوقت زمن الإسكندرية الكوزموبوليتانية حيث الأجانب والشوام يشكلون جانبا كبيرا من سكان المدينة، وهم يعملون في كل المهن والحرف الممكنة، حتى أن الجد حكى لحفيده مرة بأنه استعان بأحد عمال البساتين وكان يونانيا ويدعى "صوفيازيس" في تزيين حديقة المنزل بشجيرات وزهور من نوع خاص، كما أن التعامل في هذه المنطقة من المدينة يتم مع الأجانب من كل ملة وجنس، في شتي نواحي الحياة، يسرد الراوي أن الخواجة أريسطو يحضر يوميا من شارع دينوكراتيس ومعه سلطانيتي الزبادي يدفعهم له ويسأل عن الجد المسيو الكبير، الفرن الذي يتم التعامل معه في شراء الخبز هو مخبز "مينرفا"، وهو مخبز يملكه أحد الأجانب، محل البقالة يملكه الخواجة فوينكس، دور السينما التي يرتادها سكان الحي هي ستراند، ماجستيك، كونكورديا، لاجيتيه، متروبوليتان، وكلها أسماء لأصحابها الأجانب، الشوارع تحمل أسماء هوليوبوليس وممفيس وبوزوريس وطيبة وكوتاهية وبيلوز، طبيب الأسرة هو الدكتور "ليفانتي أوزفالدو" ويقطن في شارع الإسكندر الأكبر رقم 35، حتى الصيدلية التي يتم التعامل معها هي صيدلية جورجياديس في شارع صفية زغلول هذا هو واقع الإسكندرية المسرود داخل النص والذي يمثل الواقع المرئي الكامنة فيه كل مقومات الحياة، المكان بكل ما يحمل من مفردات أجنبية يحملها الراوي داخله، ويتعامل معها في كل مظاهر الحياة حوله في ذلك الوقت، وفي تلك البقعة من الإسكندرية التي يحدها من الشمال البحر ومن الجنوب حدائق الشلالات ويتواجد فيها مكان المكتبة وعلى يسارها حي الأزاريطة ومحطة الرمل، كان هذا هو المكان بحدوده المعروفة أما الزمان فكان هو زمن الأجانب الذين كانوا متواجدين في هذه المنطقة بكثافة كبيرة.

وكما تفتح الوحدة والعزلة التي يحياها الراوي في هذا المنزل آفاق البحث عن المجهول، ومحاولة اقتحامه، والوصول لحقيقة الواقع المرئي في شتي صورها، وأيا كانت. كانت مكتبة الجد الكبيرة وأسراره المندسة وراء مجلدات الكتب والمتمثلة في النوت والكراريس التي أدبج بها مذكراته وأسراره الخاصة، والكتب المحرمة التي كان يحذر الراوي من الإقتراب منها هي ذلك المجهول الذي كان الراوي مدفوعا غريزيا للبحث داخله ومحاولة اقتحامه، وهو العالم المرئي داخل المنزل، لذا نراه يصر على الولوج داخل هذا العالم الغريب من وجهة نظره، وعلى معايشة هذا الواقع مدفوعا بغريزة حب الاطلاع ونزعة الفضول المجبول عليها، يضبطه الجد يوما وهو يقرأ في إحدى الكتب المحرمة فيؤنبه، ويختفي الراوي يوما بليلة بعيدا عن نظر الجد حياء وخجلا، يسمع من الجد عن أحوال الثقافة والمثقفين والندوات في الإسكندرية، يخبرها الجد بأنه أكل مش وطماطم مع بيرم والنشار وقاعود، يحدثه عن سلامة موسى وكتبه، والموسوعي الكبير عبد الحكيم الجهني عقاد الإسكندرية، وبعض الأدباء الشبان أمثال محمد البسيوني وعبد الوهاب المسيري وح. ب والقاص الكبير نقولا يوسف. يقتحم الراوي أيضا الأسرار العاطفية للجد حين يعثر على بعض رسائله، واعترافاته حول غزواته وعلاقاته النسائية، يدخل الراوي في العالم السري للجد من خلال اقتحامه لعالمه الخاص المتمثل في هذه الأوراق المخبئة في أماكن سرية للغاية: "ضبطني جدي مرة اقرأ كتابا محرما، رماني بنظرة المتفاجئ وسحبه مني منذرا، وابتل وجهي من فرط حيائي واختفيت طوال النهار والليل، أما عن دوسيهاته ونوته السرية فهي كامنة في جب غائص بين وتحت مجلدات ثقيلة متوارية، اخفاها بمكره ودهائه، لا يبين منها طرف ورقة ولا غلاف. لكني بطلوعي فوق السلم بهدوء وتأن، ووجودي وحدي في البيت، أحرك المجلدات لتنفرج ثغرة وراء أخرى دون ترك بصمة، حتى يصل كفي إلى الدوسيه الأدنى لينسحب معه آخر وراء نوتة وأخرى.. إلى أن أنزل إلى السجادة وأتربع وأقرأ بنهم وأنقل سطورا، ويدوخني شعور طاغ بأنني أسرق، لكني أقول لنفسي: "مجنون أنا حتى أعقل بعد أن أعرف" "ص46" إنها الطبيعة الخاصة للراوي حب الاستطلاع وشهوة الفضول. ويعرف الراوي من قراءته لأوراق الجد عن أكثر من سعاد في حياة جده. هي إذن الحياة العاطفية لجده مثله الأعلى في الحياة، وكان ينقل من هذه الأوراق ما يحب أن يعرفه أكثر أو أن يحتفظ به في أوراقه الخاصة وفي ذاكرته، قرأ الجد ورقة كان قد نقلها فيها سر موت أمه وأبيه وأخته: "دخل عليّ حجرتي وفنجان قهوته بين إصبعيه رآني أمسك قلما وورقة بيسراي، اقترب وقرأ أول المكتوب: "... الحياة صعبة لا تطاق، مركب أبي غرقت واحترقت بمن فيها: أبي وأمي وأختي في نزهة عيد، هل حطمها "بمب" الصيد، حقا أم زعما؟ ومن حرق القاهرة؟ وكيف لا يقو مثقفو البلد على منع النكبات؟.. ولم يكمل قراءة الورقة، أخذها وانقلب وجهه، تجهمت سحنته، غادرني واختفى" "ص52". ويلم الراوي من شتات السطور في مذكرات جده مشهد الجنازة الجماعية في جبانة المنارة لأمه وأبيه وأخته، ويكتب عما عرفه عن أبيه وحياته الخاصة وعمله مع أخيه في صناعة السفن الكبيرة على رمال شاطئ الأنفوشي، وزواجه من أمي الفتاة اليونانية ابنة البلد التي كانت تعيش في حي العطارين بعد سلسلة من الغراميات التي كان يمر بها الأب مع فتيات يونانيات أخريات، ويسترسل الراوي في وصف مشاهد اللقاءات التي كانت تتم بين الأم والأب في مرحلة الشباب، وزواجهما الذي تم بزفاف شعبي مفرح، وأوضح الراوي أنه ورث عن أمه أنها كانت لا تحب كل أنواع اللحوم ما عدا البساريا، وقد ورث عنها الابن هذه الخاصية وأصبح نباتيا بالوراثة، وكانت اسمها "إيفيتا": "والجميل في حكايتهما "الأب والأم" انه قال لها: يا ايفيتا خليكي على دينك. قالت له: لا، دين الحب واحد.. أسلم. ولا يمانع بابا ولا ماما، قال لها: "أنا أعمل اجريجي"، قالت له "مصري اجريجي واحد".. حكاية ما أجملها" "ص62". كان الجد أيضا على صلة بالفتوات، ويرتاد مقاهي ونوادي ليلية مثل: الكريستال، نيوبار، ديانا ماي فير، جوردون، سبلندد، ويختلط بالفتوات وأهمهم "علي فللينا" الذي كان يحب جدي ويحترمه ويستفيد بعلمه، وكان علي فللينا له رجاله الذين يسرقون عربات النقل والكاميونات التي تحمل البضائع الأنجليزية إلى الميناء في وضح النهار في شوارع باب الكراستة والطرطوشي والسبع بنات، كان جدي في أوراقه يبرئ نفسه من الانخراط في هذه المغامرات والمخاطر ولكنه كان يقول إن بضائع كثيرة كانت تخطف وتباع، وكان جدي ماهرا للغاية في لعب الكوتشينة ونادرا ما كان يهزم في هذا المجال حتى لقب بملك الكوتشينة في الإسكندرية وكان كثيرا ما يسهر في ملاهي مونسينور والاكسلسيور وميرامار وكوت دازور والأوبرج بلو وهو الملهى الذي كان الملك فاروق يحضر فيه لمشاهدة الراقصات والفتيات الجميلات، وهناك سهّل له المعلم الكبير علي فللينا اللعب مع الملك عن طريق بوللي ومحمد حسن مرافقي الملك في سهراته، وكان للجد أيضا علاوة على أسراره وألغازه العاطفية أسرارا مالية وثمة مغامرات عن كنوز وآثار في منطقة مياه أبي قير حيث تقبع مدينة "هيراقليوم" تحت الماء في هذه المنطقة. وينتقل الواقع المرئي إلى شخصية "أم برومي" مدبرة منزلنا التي أعاملها وكأنها أمي، أحكي لها عن أسراري وهي تحكي لي عن واقعها المرئي في الحياة، وعن ابنها برومي وكيف وصل به الحال إلى أن أصبح متصوفا، وتمثل أم برومي الشخصية الثانية في حياة الراوي بعد الجد مباشرة، وتأثيرها كبير للغاية في حياة الجد والراوي والأسرة بأكملها، لذا كانت تمثل في الواقع المرئي داخل النص مساحة كبيرة لها دلالتها الخاصة. وهو ما يمثل العالم المتوازن المتشكّل من أشياء لها مقومات الحياة ولكنها تخفي ورائها عالما آخر يعجز المرء عن اكتشاف كنهه وهو ما تسجله الرواية هنا من واقع ووقائع غير مرئية، نشعر بها ونحسها ونحاول فك لغزها، أحيانا ننجح في ذلك وأحيانا أخرى نعجز عن الوصول إلى ما نبتغيه في هذه التجربة.

في آليات الخيال الفانتازي "الأسطوري والرمزي" حين يود الكاتب أن يصل إلى ما وراء الواقع المعلوم، فإنه لن يستغني عن المرور عن الواقع المرئي ذاته، وفي رواية "نور لؤلؤة الإسكندرية" نجد أن الواقع اللامرئي يتحرك عبر مكونات الواقع المرئي ذاته، وعبر الممارسات التي توقعّها الشخصيات في نسيج النص، فالتوقيع العام الخارجي الموضوعي لمصادر القصة وسردياتها لن يغني عن التوقيع الخاص بتحولاتها الداخلية، فما يقوم به الجد والحفيد داخل النص من ممارسات تتولد عنها محاولات داخلية لبلورة العلاقة القائمة بينهما. الحفيد يريد أن يعرف كل شيء من خلال كل شيء متاح أمامه، البحر والشاطئ والمكان ومكتبة الجد وأوراقه الخاصة وما تقوله وتحكيه أم برومي، والجد يحاول أن يبعد الحفيد عن هذه المعرفة، خصوصا ما هو متصل بحياته هو الخاصة، كما أن البحث الذي يقوم به الكاتب من خلال الراوي يكتسب صفة الخصوصية وتزداد قوة حضوره خاصة حينما يوغل الراوي والسارد معا داخل الفعل القصصي المتواتر داخل الحدث، لكشف ما هو غير مرئي على مستوى الكلمات وعلى مستوى التلقي لدى الكاتب والقارئ في آن واحد، يؤيد ذلك الكاتب الفرنسي آلان روب جرييه حين يقول: "هناك نقطة جد هامة، وهي المركز الذي منه ينطلق السرد ويتشكل، بعبارة أخرى، فما هو مرئي لا يلتقطه كائن نكرة، مجهول ومحايد، بل إنسان خاص، يحتل في الرواية موقعا دقيقا ومضبوطا سواء في الزمان والمكان" "رؤية آلان روب جرييه حول الرواية والواقع ترجمة رشيد بنحدو، منشورات عيون، الدار البيضاء ، 1988 ص 14 وما بعدها".

والراوي أو السارد في الرواية هو الشخصية الغير نمطية الغير اعتيادية، فهو المحرك للأحداث والمحلل لها والمراقب لمكوناتها، وشخصيات النص قليلة للغاية الأساسي فيها هو الراوي والجد وأم برومي، ولكل منهما واقعه المرئي واللامرئي داخل النص، فالراوي وبحثه الدائم عن الحقيقة من خلال أشياء كثيرة هي التي تشكل شخصيته ودرجة وعيه فهو من خلال المحارة التي كان يبحث عنها في شاطئ البحر، الأسرار والألغاز المنبثة في كتب الجد وأوراقه شديدة الخصوصية، وتاريخ الأسرة الذي كان يسجله في أوراقه الخاصة، والحادثة المأساوية التي أودت بحياة أبيه وأمه وأخته، والتصرفات المريبة التي كان يمارسها الجد خاصة واقعة اليوم الذي نزل فيه الجد إلى البدروم لينقل بعض أشيائه الخاصة، وفي الصباح اكتشف الراوي أن ما من أحد وطأت قدمه البدروم فلا آثار لذلك على الإطلاق، الأوراق التي كان مسجلا فيها بعد أفكار عن وجود كنوز وآثار في منطقة أبي قير ورفض الابن حسن في مساعدة والده "الجد" في استخراج هذه الأشياء من تحت مياه المنطقة، وطبيعة العلاقة التي كانت بين الأب والابن آنئذ، والحجارة المتناثرة مكان مكتبة الإسكندرية القديمة والبقايا الدالة على وجود آثار لأوراق البردي التي عفى عليها الزمن وحولها إلى مواد أولية أخرى، الخوف المسترسل في الزمن كما جاء في النص: "وأذكر أني في زمن قادم: قلت وكتبت كثيرا، وما كتبت إن ضاع هل استرده حتى لا يضيع مرة أخرى؟ وهل اعترف إنى ضعيف وأنت ضعيف أيضا. وتلك شجاعة أخرى، في صباي أشحذ الجرأة، أي أفتقر إليها، يعني: جبن داخلي، وكنت أجن بهاجس خوف، وخوف من الجبن، ويهوسّني في الصحو والمنام" "ص19".

من خلال تلك التهويمات التي مر بها الراوي حين وقف يتحدث مع أم برومي عن رسالة الماجستير المكلف بإعدادها، والحلم الذي مر به وارتفع به إلى القمة ثم نزل به إلي السفح، والمكتبة وما مر بها من أحوال، والتعاويذ السحرية المنبثقة من رسالة الإله "تحوت" المصري مخترع الكتابة والرياضيات، والخوف من المجهول حين مناقشة رسالته أمام العسكر واتباعهم الذين حرقوا كل شيء بما في ذلك نور المكتبة، يظهر الواقع اللامرئي من خلال أضغاث الأحلام التي مر بها الراوي والتي شكلت واقعا جديدا، حيث بدأ الجميع يهرم ويشيخ والواقع يتغير ويتبدل الحال من زمن الراوي الذي كان يبحث في رمال شاطئ البحر في منطقة السلسلة عن محارة اللؤلؤ إلى عالم المسرح الذي دخله كاتبا له رؤيته الخاصة وتجربته الإبداعية في الحياة والفن والأدب.

لقد كانت التجربة الواقعية في رواية "نور لؤلؤة الإسكندرية" حالة من حالات الكتابة المتوهجة، ولعل تجربة الكتابة عنها، وتجربة التلقي لها يحتاجان إلى درجة من الوعي تتساوى مع ما يحمله النص من قضايا، ورؤى خاصة حملتها تجربة الكتابة فيها، وأعتقد أن الكاتب قد صنع لنا نسخة مصغرة من نسخة الواقع الكبير، إنها رواية جديرة بالقراءة وبتمعن كبير.

1- استعمال الواقع، محمد خضير، آفاق عربية، بغداد ع 7-8 ، تموز- آب 2001 ص 82

المصدر: العرب أونلاين - شوقي بدر يوسف

قد يعجبك أيضا...

أضف هذا الخبر إلى موقعك:

إنسخ الكود في الأعلى ثم ألصقه على صفتحك أو مدونتك أو موقعك

التعليقات على « نور لؤلؤة الإسكندرية ».. رؤية جديدة لزخم واقعي

كن أول شخص وأضف تعليق على هذا الخبر الآن!

أكتب تعليقك
إسمك
البريد الإلكتروني

لن يتم إظهار بريدك الإلكتروني مع التعليق

الرقم السري
66076

من فضلك أكتب الرقم الظاهر أمامك في خانة الرقم السري

حمل تطبيق طريق الأخبار مجانا
إرسل إلى صديق
المزيد من أخبار الفن والثقافة من شبكة عرب نت 5
الأكثر إرسالا
الأكثر قراءة
أحدث أخبار الفن والثفاقة
روابط مميزة