الأخبار المصرية والعربية والعالمية واخبار الرياضة والفن والفنانين والاقتصاد من موقع الاخبار طريق الاخبار

أخبار الأدب والثقافةأدب وثقافة › جان دوبوفييه: الرسام الذي حرر الصورة من فخاخ الثقافة

صورة الخبر: من اعمال دوبوفيية المتأثرة بالبيئة العربية
من اعمال دوبوفيية المتأثرة بالبيئة العربية

هذا ليس رساما، إن ابنتي الصغيرة كاترين ترسم أفضل منه!" هذه هي كلمات صديقي الرسام البولندي المخضرم، أطلقها دون أي تردد ونحن كنا في مواجهه سريعة لبعض لوحات الفنان الفرنسي المعروف جان دوبوفيية في متحف الفن الحديث بالعاصمة ستوكهولم! أما أنا، فحتى حين كنت في سن مبكرة، لم أكن أجد متعة حقيقية إلا في الاطلاع على، لرسوم (الأخرى) الرسوم الغريبة، غير المألوفة، الرسوم الخطأ، المشوهة مثلما كانت الرسوم الشعبية مثلا فهي التي كانت تشدني إليها أكثر من غيرها اقول كانت تشدني وهي المختزلة والمحورة وغير المشذبة والصريحة في تلقائيتها بطريقة تقربها من الرسم الخام، الرسم غير المثقف، الذي لا يعرف المراوغة أو الإيهام أكثر من رسوم (والت دزني) مثلا!
قلت رسم خام! نعم رسم خام او رسم لم يخضع للتثقيف، وهنا استعير التسمية التي استخدمها دوبوفيية لوصف هذا النوع من العمل الإبداعي!
اتساءل: مالذي جعل رفيقي في رحلة المتحف، الرسام البولوني المحترف، ان يذهب الى مقارنة أعمال دوبوفييه مع رسوم ابنته كاترين؟ واي المعايير كان يلتزم بها؟ وهل ان رسوم كاترين او أي طفل اخر اقل أهمية من الأعمال الفنية المعروفة؟
أيوجد أمل في أن يتمتع المشاهد العادي برسوم دوبوفييه؟ ام ان هذه المتعة ستكون حكرا على النخبة والى الأبد؟
أللرسم قواعد للتذوق؟
ماهو الفرق الجمالي مابين الأقنعة والتماثيل الإفريقية ولوحة (آنسات افنيون) لبيكاسو والتي صيغت على أساس تثقيف المادة الإلهامية المتمثلة بالفن الأفريقي؟
وكيف نتذوق المنجزين الإبداعيين وعلى أساس أي معيار؟

وبصيغة مختصرة: هل من الضروري أن نثقف الشكل في التصوير؟ أو الصوت في الموسيقى حتى نضمن تذوق الجانب الجمالي؟ هذه هي الأسئلة التي سنواجهها ونحن نحاول أن نستوعب أعمال دوبوفيية ذوقيا ومعرفيا.

ولكن ما هو التثقيف؟

يرى عالم الاجتماع البنيوي ليفي شتراوس أن الطبخ كنشاط إنساني، يفترض نسقا في شكل مثلث رؤوسه هي: النيئ، المطبوخ، الفاسد. إن المطبوخ يمثل تحولا ثقافيا طرأ على النيئ، أما الفاسد فهو تحول طبيعي.

في حين سيكون عنصر التنسيق أو التشذيب احد العوامل الفاعلة في تثقيف الشكل في الفن الحديث حيث تتم معاملة الأصول الإلهامية التي اعتمدها العمل الفني الحديث باعتبارها همجية، غير منظمة، فوضوية، فيها مبالغة شديدة وكم غير ضروري من الصراحة، تشويه إلى حد غير مقبول، بدائية، فطرية ساذجة، كالفن الأفريقي أو السومري أو الفرعوني او حتى الغوطي الأوروبي. ولهذا السبب سيقوم فنان حداثوي مثل بيكاسو بتشذيب المادة التي يستعيرها ليحيلنا الى شكلها الجديد الذي (يفترض هو) أنها ستكون أفضل به بالرغم من أن العين الحذقة لا تخطيء ابدا المصدر الأصلي وما آل إليه مصير هذا المصدر من الناحية الشكلية للهيئة المشذبة، ان كان قناعا أفريقيا او وجها سومريا او آنية فخارية من عصر ما قبل السلالات في وادي الرافدين، وهكذا سنستقبل ونحن نتلمس دربنا داخل دهاليز الفن الحديث المتشعبة ما يقترحه علينا ابن الغرب (المتسيد ثقافيا) من انساق لرؤية العالم او من شروط لما ينبغي للعالم ان يكونه! وهكذا فان ذات النسق ألتشذيبي سيعتمد من قبل الإنسان (الطبيعي) وهو يواجه الأعمال الإبداعية للإنسان (الغير الطبيعي) او المريض العقلي باعتباره لا يعي (خطط اللعبة) ولا يعمل ضمن حدود (قوانين اللعبة) بما تتضمنه من حذلقة ومراوغة أسلوبية تضع المتقبل إزاء قناعة (ليست دائما حقيقية) بأصالة الصانع وجهده المبذول للوصول الى أفضل طريقة للتعبير عن المادة الفكرية أو الشكلية للعمل الفني.

وهكذا سوف تنطلي علينا خدعة الثقافة باعتبارها (نسقا) سوف يدخله رجل الثقافة على الأشياء كي نتمكن من تقبلها او وضعها داخل فضاء العمل الفني.
لقد انشغل كاندينسكي في مشروع فن لا تشخيصي، فحين رسم أولى الأعمال التجريدية في تأريخ الفن قرر ان ينصرف نحو تأليف كتابه: (حول الروحانية في الفن) وسيحاول فيه أن يجد علة لهذا التوجه في صناعة اللوحة وفي إلغاء احد أقدم عناصرها وهو عنصر المحاكاة للشكل الطبيعي وما يتبع ذلك من شروط ، ولان هذا الكتاب كان مشغولا بالإنشاء أكثر من شجاعة التماس الفعلي بباطن وخارج التجريد الحقيقيين العينيين - اذ ان عزو النشاط التصويري اللاتشخيصي الى الخضوع للضرورة الداخلية أو للموسيقى لم يكن دائما مقنعا - فلجأ فيما بعد الى تأليف كتاب أخر استغرقه الكثير من الوقت وهو المعنون بـ(نقطة، خط وسطح) وفيه سوف يقوم بمرافعة حقيقية (وهو الذي درس القانون) من اجل ان يصل بنا الى السبل المنطقية لقراءة الصورة التجريدية وتذوقها، أي وبمعنى اخر السبل المؤدية بنا الى القدرة على تذوق الجانب التثقيفي في معاملة الأشكال التجريدية او اللاتشخيصية.
اما دوبوفييه فقد اطلق قدميه بجرأة في خطوات غير مسبوقة نحو التبرؤ من نزعة التثقيف الأوربية ليتوجه الى انجاز مشروعه في سبيل فن خام! والذي تمحور بتركيز واضح في كتابه المعنون "بيان الى الهواة من جميع الأصناف" الأمر الذي سيجعله اليوم ولهذا السبب بالذات، واحدا من أعمدة مشروع مابعد الحداثة في قرننا الحالي الى جانب دوشامب وجوزيف بويز وبيكابيا.
وهكذا سنستعيد السؤال الذي طرحه دوبوفيية: هل يقبع الجمال في تثقيف القيم الشكلية؟

كما فعلت اليونان القديمة مثلا؟ او المرحلة الباروكية بقيمها الجمالية المعقدة ومطابقتها للطبيعة؟
ام في المرحلة الكلاسيكية الجديدة وما انطوت عليه من قيم صارمة ومقاييس ثابتة؟

ام في الحركات الفنية الحديثة مثل التكعيبية والوحشية او السوريالية واخرى كثيرة؟

ام انه يقبع في ما اسماه بالفن الخام حيث ينقاد المبدع الى صوت ضروراته الداخلية بالكامل ولا يقيم وزنا للعبة الأسلوبية ومطالب سوق الفن وجمهوره المستهلك.

ولعل استبعاد عنصر التثقيف من العملية الإبداعية له ما يدعمه من أسباب مرتبطة بالحالة الكونية في الفترة التي نضج بها دوبوفييه مشروعه الجديد، حيث خرجت أوربا من حروبها لتوها: الحرب العالمية الثانية وسنواتها الستة التي تم فيها القضاء على عدد هائل من البشر(زهاء 70 مليون إنسان بين عسكري ومدني) وما تمخض عنها من هبوط في قوة الإيمان بالإنسان وبالثقافة بالدرجة الأولى والشك وعدم الوثوق بالتقدم العلمي. كان هناك الملايين من اللاجئين المشردين وانهار الاقتصاد الأوربي بشكل هائل. كل هذا جعل الفنان والمثقف يتحرز من فعالية الثقافة ومدى أهميتها في تعزيز القيم الإنسانية التي انهارت أخلاقيا ولم يعد الإيمان بها قائما.
ودوبوفييه الفنان والإنسان هو ابو الفن الخام، ومراجعه هي فنون الناس البدائيين والمرضى النفسيين والهواة، ورجل الشارع، وأيضا رسامي يوم الأحد حسب التعبير الأوربي.

ولد عام 1901 من عائلة غنية جدا فأبوه صاحب شركة لتجارة الخمر في باريس والجزائر. اما أمه فهي على عكس والده، حيث سترافقه مدة طويلة من حياته (عاشت لمدة 104 سنة!) ومنذ عام 1923 ستتكون عنده بوادر اهتمام مبكر بما اسماه الفن الخام بعد ان أثارت انتباهه أعمال إنسان مريض عقليا ولم يتعلم الرسم في أي من مدارس الفنون! ولكنه سيتعرض مرارا الى أزمة انحسار في إيمانه بنفسه كمبدع ولمرات عديدة ليترك اهتماماته الثقافية ويعمل في شركة تجارة الخمور مع والده. وسيعود للرسم في عام 1933 الا انه وبعد زمن قصير سيتخلي عنه مرة أخرى. ولكنه يعود في عام 1944 ويترك العمل في تجارة الخمور لينغمس في المشروع الفكري والإبداعي الذي وجده أكثر أهمية في حياته والذي بدئه عام وهو مشروع الاهتمام بالفن الخام عام 1945، حيث سيقوم بزيارة المصحات العقلية والسجون لينجز دراسة متأنية عن أعمال نزلائها في مجال الإبداع الفني بشقيه التشكيلي والنحتي وقد قام بجمع العديد من هذه الأعمال ليهديها فيما بعد الى متحف الفنون التشكيلية في لوزان بسويسرا.
لقد كانت اهتماماته بهذا النوع من العمل الفني تتنامى وتتعاظم بعد قراءته لكتاب الدكتور هانز برينزورن حول الفن والمرض العقلي وستقوم دار غاليمار عام 1946 بنشر نصوص له لأول مرة في كتابه الذي أتينا على ذكره في متن هذا النص: "بيان الى الهواة من جميع الأصناف" وفيه توضيح لعلاقته الشخصية ولذائقته الاستثنائية بالرسم، حيث يسجل انطباعاته وافكاره بطريقة سلسة وبنمط عاطفي جميل كما في عباراته التالية: "بدون الخبز يموت الإنسان جوعا، وبدون الفن يموت ضجراً!" وفي مكان اخر سيقول: الالوان التي اجدها في الحصاة، في الحائط القديم أستعذبها على ألوان الأوشحة والأزهار..... ويسرني ان أجد للوحة ما ألوانا نقدر ان نسميها: الرمل، الليمون، الخيط القنب، أولى من اللون الأصفر الكروم، والأزرق البروسي، او الأخضر الفيروني. فمن تراه يلحن على مدرجات موسيقانا وقع كرسي تجر على أرضية البيت، وضوضاء مصعد يتحرك او صنبور ماء عند انفتاحه؟ اني لأعلم ان موسيقيينا لايبغون التعرف الى شيء من هذا كله ويدّعون ان هذه لا تعتبر (أصواتا) وانما هي (ضوضاء) وان ليس للموسيقي ان يعيرها انتباهه لحظة واحدة.

وفي عام 1947 سوف يسافر الى الجزائر ليسكن في واحات صحرائها وليعود في فصل الربيع الى فرنسا ليعرض متجر خموره الذي ورثه بعد وفاة والده للبيع ومن ثمة البدء في تعلم اللغة العربية وبعد ذلك العودة الى الصحراء الجزائرية والتأثر بثقافة البدو فيها، هناك سوف يرسم مجموعة من الصور الصغيرة بتقنية الغواش. ليرجع بعد مرور سنة الى باريس وليقوم بعد عام من عودته وبمشاركة بعض من الفنانين ومن ضمنهم السوريالي الكبير اندريه بروتون بتنظيم حملة للتعريف بالفن الخام وإقرار التسمية والبدء باستعمالها.

ولكن ماهو الفن الخام وكيف يمكن تعريفه؟
انه جهد إبداعي إنساني واستثنائي، لا يعير اهتماما للتطور الحاصل في مجال الفن ولما هو مقبول او غير مقبول في زمنه. ولا حتى ماهو يدخل ضمن حدود تعريف كلمة فن.

اما مبدع الفن الخام فهو إنسان لا يجهد نفسه لكي يتحول الى نجم في سماء الفن، ولهذا لن يصلح لان يكون عبدا لمطالب سوقه وهو يشعر بالاندفاع الى العمل بدافع من قوة الفن الذي يشعر بسلطته عليه وبكونه نوعا من الضرورات التي تأتي من الداخل وليس من دراسة الفن بشكل منهجي او أكاديمي (مدرسي)، وفي الغالب الأعم ليست لدى هذا الفرد أي رغبة للشعور بامتلاك شخصية فنان او حتى تطويرها، وهو بالأساس غير شاعر بهذا النوع من المشاكل لإحساسه بأنه خارج دائرة الفن وانه ليس من مصلحة احد ان يكون هو ذاته مقبولا او غير مقبولا في الوسط الفني وهو لا يريد أن يصنع آثارا بقدر رغبته في التعبير أو ترجمة ما يدور في عالمه الداخلي وبصيغة حرة يشعر من خلالها بالاكتفاء الذاتي وحرية اختيار الوسائل والأساليب فهو ليس بحاجة الى قوالب يستعيرها من الخارج والى التعرف على ماهو ساري او مقبول شعبيا في زمانه ولهذا فهو بهذا المعنى يصبح مبدعا أصيلا لأنه غير محكوم بأي شرط خارجي.

ان هذه المفاهيم التي لازالت جديدة بالرغم من مرور أكثر من خمسين عاما عليها، أصبحت محرضا لظهور العديد من المشاريع الإبداعية المعاصرة ليومناا هذا، ان فنانين مثل ميشيل باسكة (Jean-Michel Basquiat) الأمريكي، وبينك (A R Penck) الألماني في الثمانينات، واليوم كل من تال ار (Tal R) الدنمركي، ومسسه(Jonathan Meese) الألماني، هم شواهد حية على الكم الهائل من التأثير الذي خلفه دوبوفيية عليهم (منهم من يعترف صراحة بأنه خرج من معطف دوبوفييه) لهذا السبب تبوء هذا الفنان وبجدارة، منزلة خاصة في تأريخ الفن المعاصر فهو ليس فقط واحدا من المهمين بل هو واحد من المبدعين الاستثنائيين الذين يعدون بالأصابع ممن يقفون وراء المعطيات الجديدة لما يسمى بفن تيار مابعد الحداثة بعد الفرنسي دوشامب والألماني بويز والأمريكي الجيكي الأصل وارهول والاسباني بيكابيا.

قد يعجبك أيضا...

أضف هذا الخبر إلى موقعك:

إنسخ الكود في الأعلى ثم ألصقه على صفتحك أو مدونتك أو موقعك

التعليقات على جان دوبوفييه: الرسام الذي حرر الصورة من فخاخ الثقافة

كن أول شخص وأضف تعليق على هذا الخبر الآن!

أكتب تعليقك
إسمك
البريد الإلكتروني

لن يتم إظهار بريدك الإلكتروني مع التعليق

الرقم السري
78127

من فضلك أكتب الرقم الظاهر أمامك في خانة الرقم السري

حمل تطبيق طريق الأخبار مجانا
إرسل إلى صديق
المزيد من أخبار الفن والثقافة من شبكة عرب نت 5
الأكثر إرسالا
الأكثر قراءة
أحدث أخبار الفن والثفاقة
روابط مميزة