أحمد تيمور باشا
الحضارات الإنسانية لا تتجزأ، فعندما تتقدم أمة ما فإنها تتقدم على جميع المستويات والأصعدة، وعندما تنتكس فإنها فى هذه الحالة تنعكس أيضا على جميع المجالات، حتى تلك المجالات التي لا يعيرها البعض اهتماما ويراها الآخرون أنها غير ذات جدوى، مثل الألعاب، ذلك لأنها وفي نفس الوقت تعتبر مؤشرا يستطيع المتابع أن يقيس من خلالها مدى تقدم الأمم من تخلفها.
وفي هذا المجال ألف العلامة المحقق أحمد تيمور باشا ـ رحمه الله ـ كتابا فريدا من نوعه تحت عنوان "لعب العرب" خلقه مؤلفه خلقًا مما جمعه من شتات المؤلفات، وما استنبطه من بطون المراجع، وما استخلصه من دراساته رصد فيه أهم الألعاب التي كان يمارسها العرب، وهو أمر يدل على مدى ما كان تتمتع به الحضارة العربية من تقدم ورفاهية رغم أنهم يعيشون كبدو في الصحراء الجرداء.
حيث حفلت الثقافة العربية بالعديد من المنتجات الفنية والإبداعية الضاربة بجذورها في التراث العربي كالفنون الشعبية بأنواعها، وكذلك أشكال الترفيه ووسائل التسلية السائدة قديمًا، والتي تعكس ملامح البيئة العربية وبعضًا من خصائصها الاجتماعية.
وقد جمع المؤلف في هذا الكتاب وصفًا للألعاب التي كان يتسلى بها أطفال العرب قديمًا؛ حيث يمكن أن نستشف القيم التربوية والتقاليد التي كانت تُغْرَسُ في نفوس الأطفال من خلال اللعب؛ كالصبر والتعاون والمنافسة الشريفة وغير ذلك.
وقد بدأ تيمور رحلته في "لعب العرب" بلعبة "الأرجوحة" التي عرفها بأنها خشبة يوضع وسطها على تل ثم يجلس غلام على أحد طرفيها، ويجلس غلام آخر على الطرف الآخر، فتترجح الخشبة بهما، ويتحركان، فيميل أحدهما بالآخر، وهي توازي "المراجيح" في عصرنا الحديث.
وقد وصفها امرئ القيس بقوله: "ألا حلوا" هذا معنى لعبة للصبيان فيجتمعون فيأخذون خشبة فيضعونها على قوز من رمل، ثم يجلس على أحد طرفيها جماعة وعلى الآخر جماعة، فأي الجماعتين كانت أرزن، ارتفعت الأخرى، فينادون أصحاب الطرف الآخر: "ألا حلوا" أي خففوا عن عددكم حتى نساويكم في التعديل. قال: وهذه التي تسميها العرب الدوادة، والزحلوقة قال: تسمى أرجوحة الحضر.
بينما اختتم تيمور كتابه بلعبة "اليرمعة" وهي مفرد اليرمع، وهي حجارة لينة رقاق بيض تلمع، وقيل حجارة رخوة، وفي ما يعول عليه في باب الفاء: "فت اليرمع، ويقال أيضا: تركته يفت اليرمع، يقال: للحصى البيض، وهي حجارة فيها رخاوة يجعل الصبيان منها الخذاريف، يضرب للمغموم المنكسر"
وما بين اللعبتين رصد الكتاب عشرات الألعاب عبر أكثر من خمسون صفحة، تضمنت ألعاب بعضها استمر حتى الآن وتم تطويره بشكل أو بآخر وألعاب اندثرت ولم نجد لها مثال في هذه الفترة، وسوف نبرز في السطور القادمة عدد من الألعاب التي ذخر بها هذا الكتاب الفريد في نوعه، والتي قسمها المؤلف إلى أقسام بناء على حروف اللغة العربية.
الأنبوثة: وهي لعبة يحفر الصبيان حفريًا، ويدفنون فيه شيء فمن استخرجه فقد غلب، أما البُقَيرى فهي لعبة الصبيان، وهي كومة من تراب وحولها خطوط، ويقال بقِر الصبيان أي لعبوا البُقَّريى — يأتون إلى موضع قد خبئ لهم فيه شيء
فيضربون بأيديهم بلا حفر يطلبونه.
التدبيج: في اللسان تدبيج الصبيان إذا لعبوا، وهو أن يُطأمن أحدهم ظهره ليجيء آخر يعدو من بعيد حتى يركبه، ولم يذكره القاموس، ويظهر أنه يقال له الدباخ أيضا بالخاء، المعجمة وهي لعبة ذكرها القاموس، ولم يفسرها، ولم يذكرها اللسان.
الثواقيل: ذكرها ابن حجر الهيثمي في آخر كلامه على الشطرنج (ج2 أواخر ص216) ولم يفسرها، وذكر معها أسماء لعب أخرى توقف في معرفة بعضها الأذرعي كما قال، ولم نعثر عليها في القاموس.
الشطَرنج: جاء في المخصص: قال ابن جني: الشطرنج من اللعب، فارسي معرب، والرخ من إداة الشطرنج، والجمع رخاخ، ورخخة، والفرزان من قطعه، والكوبة الشطريخة.
وفي القاموس: الشطرنج لعبة معروفة.
وفي اللسان: الشطرنج فارسي معرب، وفي مادة كوب منه الكوبة الشطرنجية،
والكوبة الطبل والنرد.
وفي القاموس: الكوبة بالضم النرد أو الشطرنج.
وفي شرح القاموس عن الشطرنج: «فارسي معرب من صدرنك أي الحيلة، أو من شدرنج أي من اشتغل به ذهب عناؤه باطلا، أو من شط رنج أي ساحل العتب الأخير من القاموس.»، وكل ذلك احتمالات.
وقال ابن بري في حواشي الصحاح: الأسماء العجمية لا تشتق من الأسماء العربية، والشطرنج خماسي، واشتقاقه من شطر أو سطر يوجب كونها ثلاثية، فتكون النون والجيم زائدتين.
الضبطةُ: ذكرت في الأسن.
ولعبة الضب لم يذكرها اللسان، ولا القاموس في "ضبب"، وذكرها البلوي في ألف باء، قال: "ومنها لعبة الضب، وهو أن يصور الضب في الأرض، ثم يحول أحدهم وجهه، ويقول: ضع يدك على صورة الضب، ثم يقال: على أي موضع من الضب وضعتها فإن أصاب قمر"
وفي محاضرات الراغب، لعبة الضب أن يصور الضب، ثم يحول أحدهم وجهه فيضع يده على موضع، فيقول: عني الضب أو أذنه أو كذا... فإن أخطأ ركب هو وأصحابه، وإن أصاب حول وجهه فيصري هو السائل.
اللوثةُ: وهي لعبة ذكرت في "الكرة"، وذكرها صاحب الطالع السعيد (رقم 610 تاريخ ص239) في ترجمة محمد بن إسماعيل السفطي ابن القاضي زين الدين، ولم يسمها، وقد ساقها دلالة على أن صاحب الترجمة كان لا يعرف المزاح، فقال: "وكان ثقة صدوقًا، جلس جماعة مرة يلعبون، ويكتبون ورقًا في بعضها صورة شخص صاحب متاع، وفي أخرى صورة لص، فإذا حصلت الورقة التي فيها صاحب المتاع، يقول: يا جماعة ضاع لي كذا وكذا وأريد شخصا (أو شخصين) — على قدر ما يخطر له — يحضر لي اللص، وثَم نقطة ونقطتان فأكثر على عدد الجماعة، فوقعت الورقة التي لصاحب المتاع له، وصار ساكتًا، ونحن نقول له: ما تتكلم؟ فيقول: حتى أبصر شيئًا ضاع لي، فأقوله، ولا يبقى كذبًا، وصرنا نقول: هذا لعب لا حقيقة له، وهو مفكر."
جدير بالذكر أن كتاب "لعب العرب"، قدمه لجنة "نشر المؤلفات التيمورية" لقراء العربية؛ ليقفوا على ناحية أخرى من نواحي قدرة العلامة المحقق أحمد تيمور عليه رحمة الله، على التوفيق في الاستقراء والاستقصاء، فيعلموا أنه كان يخلص الإخلاص كله في البحث، والتعمق في الدرس، وإعداد مؤلفاته الكثيرة المتعددة.
وكان المؤلف رحمة الله عليه يعتمد على مجموعات مكتبته المشهورة، وما كانت كعبة لأدباء الشرق وحدهم بل لهم ولأدباء الغرب على السواء، ولم يكن يجمعها للفرجة والزينة لكثرة مجلداتها، وتعدد موضوعاتها، بل كان يجمعها — كما يفعل العالم الخبري ـ لعب العرب يجمعها ليدرس ما فيها، ويخدم كل كتاب تحويه مكتبته، بما يعلقه عليه، من سديد رأيه، وخلاصة فكره، فلم تكن قيمة كتبه في ذاتها وحدها بل بهذا، وما زاد هو عليها كذلك، وما استخرجه من بطونها وأفرده في مؤلفات خاصة، وكان باكورة صنيعها كتاب "ضبط الإعلام"، وأردفته بهذا الكتاب "لعب العرب" وستتبعه بكتاب "الأمثال العامية"، فكتاب "الألفاظ العامية"، وهي تحقيقات علمية وأدبية واجتماعية، وكلها وما تضمنته المكتبة التيمورية العامرة الزاخرة بالمؤلفات، إن هي إلا حسنة من حسنات ذلك الفقيد العظيم أسداها إلى قراء لغة قومه.
كن أول شخص وأضف تعليق على هذا الخبر الآن!