وبعض الظن إثم
وخَلت منه إلى نفسها، للمرة الأولى، ولعل هذا ما نقصها منذ التقته.. نفسها... فبعض العشق يسلبنا أنفسنا بشدة تملكه وتغلغله في تفاصيلنا، وفي نفسها ضاعت، كما يضيع كل من هجر بيته القديم الذي ألف ترتيب مقاعده، وأماكن راحته، وصوت ضحكاته، وعاد إليه بدون سابق إنذار، دون أن يستأذن الأعوام التي مضت، دون أن يسأل عما قد يكون قد غيره الغياب في الغياب، ودون أن يُمهّد للقلب الطريق كي يحتمل فرق التوقيت.
وفي نفسها، سكتت جميع الأصوات إلا من أنين أسئلة بدون إجابات.. لمَّ لا يحب الحب أصحابه ؟.... لمَّ لا يقترب من تلك القلوب الأكثر اتساعا لضرباته؟ ولمَّ لا يخلَّد سوى ضحاياه؟ لمَّ لم يلتفت لمن عاشوا لأجله وبه؟ أكُل الحب مميت، حتى أصبح لاهثا إلى دفن قتلاه قبل بعث من كتبت لهم الأقدار به حياتا؟
واستشعرت ضيق صدرها بعلامات الاستفهام، وقالت: "ليست هذه سوى أضغاص أوهام"، ربما بالغت بعض الشيء، عل غيابه غير مقصود، وإن كان في كل غير مقصود مقصود"
فتشت عن شاعرها المفضل، علها تجد عنده بيتا سكنه حبيبها وإن كان شعراً، بيتاً يحملها أولى حروفه إلى قلب ذلك الغائب وإن افتعل الحضور، لتسأله ما بالُ قلبك؟
ألم أنقصك؟ ألم أمر بك ؟ ... أكان عليك أن تأتي ثم ترحل وأنت هنا.. هنا حيث لا يمكنني التخلص منك ولا الحصول عليك ... هنا حيث غيابان في حضور... هنا حيث أنت من أنت ولست أنت ... هنا حيث أنا بدون أنا ... هنا حيث كنا ولم نبق ولم نرحل... هنا حيث أقرا كلامك ولا أراه ... هنا حيث جميلة إنتِ هذا المساء دون أن تتطلع إلي... هنا حيث جميلة أنا هذا المساء، وأنا لا أصدقك .... هنا حيث كل الأضداد.. هنا حيث أنا وأنت دوننا .. ؟ أأكتمل اليوم بدوني ؟
تركته وخرجت إلى باب القصيدة، ومنها إلى نفسها ثانية علها تجده هناك حيث سكن، عله سمع لنداءاتها صوتا، فرجع كما اعتاد، ولكنها لم تجده .. فأشهدت قلبها عليه كي لا يأن مجددا، فيحن، فيأبى البقاء ويرحل إليه، ويتركها كمن تاه عنها صغيرها.. وقالت:"ليتسع قلبك لي يا قلب، ها أنا الآن .. أرى من أكون .. ولكني فقدت القدرة على استيعاب تفاصيلي، أصبحت عاجزة عن تحملي وحدي .. أعلم أن الأمر ليس سهلا بالنسبة له.. وربما التبست عليه بعض أمور الهوى .. وربما أنا مبالغة في كل ما قلت.. وربما لم يحدث شيء على الإطلاق يستدعي كل هذا الحزن .. وربما ألف ربما غيرها.. ولكني على يقين بأني لم أخلق يوما لأتمم قصص أحدهم, ولست أنا من تهوى لعب دور ساكنة الفراغ في جدول أعمال حبيبها ... ولست أنا من سيتسع صدرها لتشاطر الحب مراسم تأبين ضحاياه، لتكن إحداهن
يا قلب .. حين كتبت عنه، لم أقصد أن أخلده على أوراقي، لكي أقرأ تفاصيله إن أنا اشتقت إليه يوما ... لم أكن يوما مبالغة حين سميته "أنا" ... ظننته كذلك... كتبته وكتبت له، لكي أخلق شهودا على ما نمر به، يذكرونا إن نحن نسينا كيف كنا... يواجهونا بحقائقنا.. أين كنا ..ومتى بدأنا ...وإلى أين انتهينا... لم أكتب ليكن نصيبي من قصتي حسن الصياغة، وترتيب الكلمات... واستدعاء النهايات السعيدة كي أكف عن السرد وأخلد إلى نومي.. ولم أكتب لكى أعيد قراءة ما كتبت منذ كتبت ولا يسعني إلا الألم... وظننت أني خلوت إلى نفسي منه، فلم أجدني... وكل ظني فيه إثم .
كن أول شخص وأضف تعليق على هذا الخبر الآن!